فاتح نوفمبر 1954: ميلاد الحرية واستمرار الرسالة
في فجرٍ باردٍ من فجر الأول من نوفمبر سنة 1954، انبثق النور من جبال الأوراس، حين دوّى صوت الرصاص معلنًا أن الجزائر قررت أن تستعيد حقها في الوجود. لم يكن ذلك اليوم مجرد حدثٍ سياسي، بل كان لحظةً مفصلية أعادت تعريف معنى الحرية والإرادة في وجدان الإنسانية كلها. إنه اليوم الذي تحوّل فيه الألم إلى أمل، والاحتلال إلى ثورة، والعبودية إلى ميلاد جديد للأمة الجزائرية.
لقد شكّل فاتح نوفمبر بداية التحوّل التاريخي الذي أنهى استعمارًا استيطانيًا دام أكثر من قرن وثلاثة عقود، مارس فيه المحتل الفرنسي أبشع أشكال التدمير المادي والمعنوي، محاولًا طمس الدين واللغة والهوية الوطنية. غير أن جذوة الإيمان في قلب الجزائري لم تنطفئ، فكانت الثورة تتويجًا لمسار طويل من النضال والمقاومة، بدأت منذ الأمير عبد القادر مرورًا بالحداد والمقراني وبوعمامة، ووصولًا إلى الحركة الوطنية التي أدركت بعد مجازر 8 ماي 1945 أن الاستقلال لن يُستعاد إلا بالسلاح.
ثورة تحرّر ووحدة
لم تكن ثورة أول نوفمبر انفجارًا عفويًا، بل كانت عملاً منظمًا استند إلى رؤية سياسية واضحة. فجاء بيان أول نوفمبر ميثاقًا وطنيًا جامعًا، عبّر عن تطلعات الجزائريين جميعًا دون استثناء، محدّدًا الأهداف والوسائل بدقة: الاستقلال الوطني، ووحدة الشعب، وبناء دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية.
كانت الثورة، إذن، مشروعًا حضاريًا أكثر منها عملًا عسكريًا؛ مشروعًا في بناء الإنسان قبل تحرير الأرض، وفي إعادة صياغة الهوية الوطنية على أسس الوحدة والكرامة والعدالة.
لقد واجه الاستعمار الفرنسي ثورةً لم يتوقعها، فارتبك في الميدان العسكري وأُحبط سياسيًا ودبلوماسيًا. ومع كل قريةٍ تُدمّر، وكل شهيدٍ يُسقط، كانت الثورة تكبر وتزداد رسوخًا في قلوب الناس. انخرط الشعب بكل فئاته في ملحمة الحرية، من الفلاحين إلى المثقفين، من النساء إلى الطلبة، حتى أصبحت الجزائر بأكملها جبهةً واحدة تقاتل من أجل الحياة والكرامة.
البعد الإنساني والعالمي للثورة
لقد تجاوزت الثورة الجزائرية حدودها الوطنية، لتصبح رمزًا عالميًا لمقاومة الاستعمار. ألهبت مشاعر الأحرار في إفريقيا وآسيا والعالم العربي، وأعادت الثقة إلى شعوبٍ كانت تظن أن الاستقلال حلم بعيد المنال. لم تكن الثورة مجرد قضية جزائرية، بل كانت صرخة إنسانية ضد الظلم، ودليلًا على أن إرادة الشعوب أقوى من الحديد والنار.
وكانت دبلوماسية الثورة مكمّلة لكفاح المجاهدين في الميدان، إذ نقلت صوت الجزائر إلى المحافل الدولية، حتى أصبحت الأمم المتحدة منبرًا تُسمع فيه قضية الشعب الجزائري كقضية عدل وحق.
من التحرير إلى البناء
انتهت الثورة بالنصر وإعلان الاستقلال في 5 جويلية 1962، بعد سبع سنوات ونصف من التضحيات الجسيمة، قدّم فيها الشعب أكثر من مليون ونصف مليون شهيد. لكنّ الاستقلال لم يكن نهاية الطريق، بل بداية مرحلة جديدة من معركة البناء والإعمار. فالثورات العظيمة لا تُقاس بما تحققه من تحرّر فحسب، بل بما تخلّفه من وعيٍ ومسؤولية في الأجيال اللاحقة.
اليوم، بعد واحدٍ وسبعين عامًا من اندلاع الثورة المجيدة، يُطرح السؤال مجددًا: ماذا يعني أن نحتفل بنوفمبر؟
الجواب لا يكون بالأناشيد والخطب وحدها، بل بإحياء روح نوفمبر في حياتنا اليومية؛ في العمل والإنتاج، في الأخلاق والانضباط، في الوحدة والتضامن، وفي محاربة كل ما يهدد كيان الوطن واستقراره.
نوفمبر الجديد: ثورة في الوعي والعمل
واجب الجيل الحاضر أن يخوض ثورته الخاصة ضد الفساد واللامسؤولية واللامبالاة، وأن يبني وطنه كما بناه الشهداء بالدم، ولكن هذه المرة بالعقل والعلم والإتقان.
نحتاج اليوم إلى ثورة في السلوك، تغيّر عقلية الانتقاد السلبي إلى ثقافة المبادرة والإصلاح، وثورة في الإدارة تُفسح المجال أمام الكفاءات الشابة، وثورة في الاقتصاد تجعل العمل الشريف قيمة وطنية عليا.
كما يجب علينا أن نحمي شبابنا من سموم المخدرات والانحراف والتيئيس، وأن نغرس فيهم روح الفخر والانتماء والنجاح، لأنهم الامتداد الطبيعي لجيل نوفمبر.
أما أمن البلاد واستقرارها، فهو خط الدفاع الأول عن سيادتنا الوطنية، يتطلب وعيًا جماعيًا بأن الجزائر أمانة في أعناق الجميع، وأن الحفاظ عليها واجبٌ لا يقلّ قداسة عن تحريرها.
وفي زمن التحالفات المتغيّرة، يجب أن تبقى الجزائر وفية لمبادئها: نصرة المظلوم، دعم القضايا العادلة، والتعاون من أجل السلام والتنمية في إفريقيا والعالم العربي.
خاتمة: الوفاء للعهد وبناء الغد
إن ثورة أول نوفمبر ليست فصلًا من الماضي، بل هي منهج حياةٍ للأمم التي تريد أن تبقى حيّةً وشامخة. علّمتنا أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الوحدة هي سرّ النصر، وأن العمل والإخلاص هما طريق الاستمرار.
في هذه الذكرى المجيدة، نقف إجلالًا لأرواح الشهداء الأبرار، ونجدد العهد بأن نظل أوفياء لرسالتهم:
أن نحافظ على استقلال الجزائر ووحدتها، وأن نحول قيم الثورة إلى واقعٍ مزدهر من التقدم والعلم والعدالة.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار،
وعاشت الجزائر حرةً أبيةً، صامدةً في وجه التحديات، صانعةً لمستقبلها بإرادة أبنائها.
مهاجري زيان
رئيس الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية
جنيف سويسرا .
رئيس الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية، مهاجري زيان يؤكد أنه لا بديل عن المواجهة الفكرية...
أخر الأخبار
«منطلقات تجديد الخطاب الدينى «تأسيساً على مرتكزات الفكر الإسلامي الوسطى التي درج الأزهر...
أخر الأخبار
بعد انتشار “جائحة كورنا” في العالم و ما تركته من آثار خطيرة في مختلف المجالات، ممّا أوجب كثير من الإ...
أخر الأخبار
في لقاء جمعهم بمقر وزارة العدل الاتحادية“مزيك” يناقش مع “لامبريشت” خطاب الكراهية وتداعيات الإسلاموفو...
أخر الأخبار