الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية

صفة إستشارية لدى الأمم المتحدة
إطلاق تجريبي
2020-12-16

   بعد أيام قليلة يستقبل الناس عام سنة من حياتهم، ويخلفون وراءهم أخرى، وفي استقبالنا لعام جديد، ينبغي لكل واحد منا أن يقف مع نفسه وقفة تقييم و مراجعة ليخرج بدروس وعبر و فوائد تعينه على النجاح في عامه الجديد.

         فمن نظر إلى السّنة التي طواها وتركها وراء ظهره،أدرك أن أعمالنا التي قمنا بها في الماضي إما  طاعات و أعمال خير و نفع عام في خدمة الناس ومساعدتهم،حيث تقربنا من الله تعالى، من عبادة ونفقة و تفريج كربة و تقديم يد العون للفقراء و المرضى و المنكوبين و غير ذلك؛ ذهب تعبها وإجهادها، وبقي سرورها ونورها في القلوب، وبقي خيرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يجده يوم يلقاه قال الله:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه )[الزلزلة:7-8] ،ويكفي ما يشعر به الإنسان من سعادة عندما يوفق لطاعة و ينتصر على الهوى، فيقذف الله في قلبه من السرور مالا يعرفه إلا من جربه وذاقه وقارن بينه و بين ذل المعصية.

        يقول بعض الحكماء: إنَّا لفي عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله إنه لتمر ساعات يرقص القلب فيها طرباً من طاعة الله عز وجل، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب.

         وإما أن تكون أمورا سلبية أو إهمال أو تقصير شديد في مصالح الناس ، كلها معاصي لله تعالى ، استجبنا فيها لداعي الشهوة والهوى بالظلم أو التهاون أو الأذى،، هذه الأشياء ذهبت لذاتها وشهوتها وبقي ألمها وعذابها، فإن هذه الأمور من المعاصي يترتب عليها عقوبات دنيوية وأخروية.

          فلا بد -أيها القراء- من وقفة تأمل عند نهاية هذا العام، يتذكر فيها الإنسان أن الله عز وجل حينما قسّم الدنيا إلى قرون، وقسّم القرن إلى سنين، وقسّم السنة إلى شهور، والشهر إلى أسابيع، والأسبوع إلى أيام، واليوم إلى ساعات، والساعة إلى دقائق، والدقيقة إلى ثوان ولحظات، أن يتذكر أن الله عز وجل جعل لكل مناسبة وظائف سواء في العبادات أم المعاملات،يدخل علينا شهر رمضان ثم إذا خرج جاءت مناسبة أيام العشر والحج ،ثم إذا خرجت جاءت مناسبة بداية العام وشهر الله المحرم وهكذا،و ندخل مرحلة الجامعة و و بعدها مرحلة الزواج و الأسرة و مرحلة الإنجاب و التربية ثم مرافقة الأبناء في طفولتهم ومراهقتهم،من الابتدائي إلى الثانوي إلى الجامعة،، كل هذا حتى يتذكر الإنسان ويستدرك ، كما قال الله عز وجل:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان:62]

          فالإنسان  إذا فاته عمل الليل استدركه بالنهار، وإذا فاته عمل النهار استدركه بالليل، ولذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا غلبه عن صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} صلاها في الضحى، فيستدرك ما فاته بالليل في النهار.

         وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من نام عن حزبه بالليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل} و كذلك هي قضايا الحياة في مختلف الجوانب.

        و من السلبيات التي أردت أن أنبه عليها مشكلة إلقاء اللوم على الدهر، بعض الناس يقولون: سبحان الله! ما أسرع الأيام والليالي! ثم بعد ذلك تجد  منهم ينحون باللائمة والسب على الدهر و الوقت.

        يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر، ما رأت عيني مصيبة نـزلت في الخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر} .

           إن هذه الشمس التي تطلع علينا هي التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، بل هي الشمس التي طلعت على آدم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،و هي التي طلعت على المبدعين والمخترعين و المصلحين،، و الذي اختلف هو الإنسان فنحن الذين تغيرنا، ولهذا عاد اللوم علينا كما قال الشافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا      وما لزماننا عيب سوانا

         في مثل هذه المناسبة:فإن الإنسان يتذكر وجوب الاستعداد للموت، وألا يغفل و لا يسوف التوبة، فسارع إلى التوبة قبل فوات الأوان.

         قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة. هذا هو حقيقة ما تقوله الأيام والليالي،و نحن نقول هذا عام جديد(2021) فلنتزود منه جميعا لما يجعلنا من الفائزين عند الله، بخدمة الإنسان و الإنسانية،دعويا و اجتماعيا و ثقافيا و تربويا.. ذلك باستعدادك الدائم لمقابلة الله تعالىلا  “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك”. ابن عمر رضي الله

   قبل دخول العام الجديد بأيام قليلة يحتفل العالم المسيحي بمولد نبي الله عيسى عليه السلام، و هو النبي الكريم الذي له منـزلة عظيمة في الإسلام أمنيتي أن يعرفها النصارى و غيرهم.

         فالإسلام دين الوسطية و الاعتدال لا يقبل ما قررته بعض المعتقدات من قذف لعيسى عليه السلام ولأمه، وما قررته النصرانية من غلو فيه و تأليهه و اعتباره ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة.

      لقد قص الله علينا أحسن القصص وأروعه عن عيسى وأمه عليهما السلام  من بداية أمرهما وتابع ذلك في مراحل حياتـهما في غاية البيان مع غاية الإكرام، فآمن بذلك المؤمنون من أتباع محمد صلى الله عليه و سلم، وقدروا عيسى وأمه حق التقدير، واحتفوا بـهما غاية الاحتفاء،الإيمان بعيسى (وكل الأنبياء والرسل) ركن من أركان الإيمان، ولا يصح إسلام شخص بدونه. ذُكر عيسى باسمه في القرآن الكريم 25 مرة، بينما ذُكر محمد 4 مرات.

             إن تكريم القرآن الكريم للمسيح وأمه وعائلته يفوق بلا ريب تكريم كل من التوراة والإنجيل الموجودين حالياً،

         في القرآن الكريم توجد سورة آل عمران وهي اسم عائلة المسيح عليه السلام، وهذه السورة هي ثاني أطول سورة في القرآن الكريم، وهناك سورة باسم (مريم) العذراء والدة المسيح عليهما السلام، على حين لا يوجد في القرآن الكريم اسم لعائلة نبي الإسلام محمد ﷺ، إذ لا توجد سورة تحمل اسم (بني هاشم) أو (بني عبد المطلب) ولا توجد سورة تحمل اسم (آمنة بنت وهب) والدة الرسول ﷺ.

           ورد اسم عيسى – عليه السلام – خمساً وعشرين مرة في القرآن، وورد اسم أمه مريم – عليها السلام – أربعاً وثلاثين مرة في القرآن، وثلاثاً وعشرين مرة مقرونة باسم عيسى ابن مريم، وإحدى عشر مرة مجردة عن عيسى.

            وتحدث القرآن الكريم عن أسرة عيسى عليه السلام من ناحية أمه عن جده من أمه، وجدَّته من أمه، وبيَّن عظمة هذه الأسرة في الصلاح والتقوى والعبادة.

          ذكر الله عز وجل نشأة عيسى – عليه السلام – ببيان نشأة أمه بياناً لبطلان ما يعتقده النصارى فيه من أنه ابن الله – تعالى الله عن ذلك – فعيسى له أم، وأمُّ عيسى لها أم وأب، ولهما أمهات وآباء إلى آدم.

           فإذا كان من سنة الله الجارية في الخلق من البشر  و غيرهم أن يتم الإنجاب والتوالد عن طريق أبوين ذكر وأنثى فإنه قد سبق ذلك أن خلق آدم أبا البشر من طين أي من غير أبوين ، وخلق أم البشر حواء من ذكر دون أنثى من ضلع آدم عليهما السلام، وكل ذلك من آيات الله العظيمة الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، كذلك في هذه الحقبة من الزمن من عمر البشرية أراد الله أن يري الناس آية جديدة من آياته الدالة على عظيم قدرته ألا وهي خلق عيسى – عليه السلام – من أنثى بدون ذكر ، ولقد استغربت مريم – عليها السلام – هذا الأمر العجيب ، فقال لها  جبريل عليه السلام : كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، فكل المخلوقات كـبـيــرها وصغيرها..يحدث بإرادة الله ومشيئته وبقوله كن فيكون ، فسبحانه وتعالى.

       وفي نهاية هذا العام،و بعد الحادث الإرهابي الذي حدث مؤخرا في فيينا، ترتفع مخاوف خشية أن يُعاقب المسلمون في النمسا عقابًا جماعيًا، وبدأنا نلاحظ زيادة التهجم اللفظي العنصري على المسلمين، وأصبح التحريض ضد المسلمين الوسيلة الأكثر استعمالا لجلب أصوات الناخبين خاصة في أوقات الحملات الانتخابية هذا السلوك العنصري يشكل تهديدًا متزايدًا للديمقراطية وحقوق الإنسان.

          التعايش والتسامح واحترام الغير في المجتمع النمساوي نموذجً يحتذى به لذلك ينبغي على المسلمين أن يبذلوا كل ما في وسعهم للحفاظ على هذا المكسب لتعزيز التماسك والسلام الاجتماعي_وعلينا في المقابل _التحلي بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم لدحر الأكاذيب المنشورة عن الإسلام و المسلمين.

            وكذلك الشأن في فرنسا فمن التحديات التي يواجهها المسلمون فيها تنامي خطاب الكراهية والعنصرية ضدهم.. و هم يعانون من ويلاتها،على المستوى الفردي والمؤسساتي، و كل هذا يقتضي يقظة و وعيا و عملا حكيما و مستمرا،خاصة في هذه السنة الجديدة(2021).

             ففي الأيام السابقة صادق البرلمان الفرنسي على القانون الجديد الذي عنون بقانون الانفصالية الإسلامية في بادئ الأمر،ثم غير عنوانه وإن كان مضمونه قد احتفظ به، إلى “تعزيز مبادئ الجمهورية واعترافها” الأمر يدور كله على الإسلام، وأن الإسلام لا يحترم هذه القيم وهذا غير صحيح. وقد كشفت الدراسات الأكاديمية في أوروبا أن مصدر التطرف والعنف بعيد عن المساجد.

           إن حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق الدينية والمدنية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية و الأسرية. وجاءت الشريعة الإسلامية لحفظ الضروريات الخمس التي اتفقت جميع الرسالات السماوية والعقلاء في كل زمان على وجوب حفظها، وهي حفظ الدّين والنفس والعقل والنسل والمال، ويلتحق بهذه الضروريات كل ما يكملها ويخدمها مما به توسعة على الناس، ورفع للحرج عنهم، أو كان به تزيين لحياتهم وتهذيب لأخلاقهم، بحيث تكون حياة نظيفة كريمة. إن الإسلام سبق القوانين الوضعية والمواثيق الدولية في حفظ هذه الحقوق ورعايتها، في وقت كان العالم يخيم عليه الكثير من الجهل والتخلف، والظلم والتعسف.

         لقد قررت الشريعة مبدأ الكرامة الإنسانية لكل الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وألوانهم ولغاتهم، وأديانهم وبلدانهم،(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )سورة الإسراء 70،إننا عندما نتكلم عن تكريم الإسلام للإنسان نكون قد تجاوزنا مسألة حفظ“حقوق الإنسان”، وتحريم ظلمه وانتهاك حقوقه، فهذا من ثقافة ومن مسلّمات ديننا وأبجدياته، وهذا الحق مضمون حتى للبهائم والحيوانات في الإسلام،و في كل زمان ومكان،ولعل السنة الجديدة(2021) سانحة طيبة لإحياء هذه الثقافة،التي اعتنينا بها في هذا العدد بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان من مختلف الجوانب،لنجعلها فعلا من أيام الله التي نُــذَكـــِّـــــــر بِـــها أنفسنا و الناس أجمعين.